"أحب النساء
كثيرًا لدرجة انني صرت مجرمًا كامناً"
هذه هي مقولة المنفذ ساسياما
ميتسورو.
في إحدى الليالي، كان كلٌ من المفتش
كوغامي شينيا والمنفذ ساسياما ميتسورو يحدق في الآخر بصمت في
إدارة الأمن العام في إحدى مكاتب القسم الأول وتحت مراوح عملاقة تصدر صريرًا مزعجًا باستمرار. إن صح القول، كوغامي هو الذي كان يحدق.
"اوي"
لِم بحق السماء بدى الصوت
الصادر منه مثيرًا للشفقة؟ لم يكن بوسع كوغامي فعل شيء حيال ذلك سوى التذمر داخل نفسه بعد أن ابتلعت المروحة صوته الضعيف الذي لم ينجح في
شق طريقة للوصول إلى ساسياما.
"ما فعلتَه كان خرقًا صريحًا للقواعد".
بدى الأمر و كأن
صوته تلاشى فور ما غادر فمه – مُستنزَفًا من قِبل المروحة. تنهد كوغامي و نظر
عاليًا نحو السقيفة.
كم مرة عليه أن يقوم
بهذا؟
وعلى الرغم من كونه غاضبًا، فذلك الغضب الذي ينبغي له أن يكون في أوجِه بدى و كأنه يتلاشى، حتى هو نفسه
شعر باللامبالاة على غير العادة. الأضواء الصادرة من أنابيب النيون بدت و كأنها
تأثيرات خلفية مثالية لهذا الموقف الذي هما فيه.
واجب المفتش كان التحكم و
الاشراف على ما يقوم به المنفذون لإكمال المهمة.
لُقن كوغامي ذلك في قاعة تدريب الموظفين الجدد مباشرة بعدما التحق بمكتب الأمن العام. أجل، هذا ما قاموا
بتعليمه إياه...
لكن هذا الرجل الماثل أمامه
لم يسبق له و أن اتبع تعليماته و لو لمره. مهلًا، ربما كان هناك مرة واحدة. لكن
معظم الوقت، لم يفعل. مضى ما يقارب الخمس سنوات و نصف إذ تحتم على كوغامي التعايش مع الصداع المصاحب لهذا الفارق الكبير بين المفهوم و الواقع.
كان كوغامي غاضبًا على
العرافة لتعيينها ساسياما ميتسورو كشخص كفؤ لأداء وظيفة المنفذ.
نظام العرافة، ذلك النظام الذي يُعنى برعاية المواطنين طوال العمر تحت سيطرة القسم.
بؤس البشر الناتج
عن الحيرة في الاختيار أصبح الآن مجرد شيء يُذكر في الكتب الأدبية القديمة. ففي
عالم تحكمه العرافة، كل شخص يملك مقومات مناسبة و ضرورية لهيكلة المجتمع التي لا
يمكن الاستغناء عنها، تماما كعبارة "دع الخبز للخباز. هذه هي قيمة العرافة للبشرية".
بالطبع هذا يشمل الرجل الذي
يتثاوب أمام كوغامي.
"حسنًا... كوغامي، ما
رأيك بأن تجفف شعرك أولًا؟"
قال ساسياما، دون أن يولي أي
اهتمام لمشكلة كوغامي قبل أن يناوله منشفة.
في هذه المدينة التي تملك
نسبة عالية من هطول الأمطار، اعتاد الكثير من الناس مواجهة المطر الغير متوقع. كان
الأمر كذلك بالنسبة لكوغامي في اليوم الذي خرج فيه لأداء مهمة، مما جعل شعره
الأسود مبللًا تماما الآن.
نظر كوغامي إلى غريمه الذي
كان يظهر له بعض اللطف ثم اومأ برأسه حتى لا يعلم الآخر أنه مستاء و أخذ المنشفة. و
فجأة، توقف.
المنشفة التي استلمها كانت متسخة
و رثّة، و كانت تفوح منها رائحة سيئة. و كانت عبارة "منتجع جبال أونسين " مطبوعة عليها.
"ساسياما، من أين أتيت
بهذه المنشفة؟"
قد وصلت العرافة التي تم تطوريها بشكل متزايد
لتحسين قياس الصحة النفسية للفرد منذ اليوم الأول الذي بُنيت فيه وحتى الآن، إلى المرحلة
التي تمكنك من قياس احتمالية ارتكاب الانسان لجريمة أو ما يسمى بـ "معامل
الجريمة". مما أدى إلى فصل الناس ذوو معامل الجريمة المرتفع عن المجتمع كـ "مجرمين
كامنين" في سبيل الحماية من وقوع جريمة فعلية.
من بين هؤلاء المجرمين الكامنين، خضع بعضهم
للعلاج النفسي وأصبحوا قادرين على العودة إلى المجتمع في حين أن أولئك
الذين يعانون من معامل جريمة فوق المعدل الطبيعي يُعتبرون غير قادرين على الشفاء، سيضطرون لإمضاء ما تبقى من حياتهم في المركز العلاجي. ومن بين هؤلاء، فقط من تقرر العرافة أنهم يملكون المقومات المناسبة سيكونون قادرين على العمل كـ منفذين
بموجب لوائح صارمة.
لا يملك المنفذون الحق في اقتناء أي ممتلكات
شخصيك بحُرية، و بالتأكيد لن يكونوا قادرين على قضاء عطلاتهم في ينابيع أونسين. و
بالتالي أحس كوغامي بتناقض نوعًا ما عندما ناوله المنفذ منشفة أونسين
تلك. و على الرغم م معرفته أنه لن يحصل على إجابة شافية لو حاول الحصول عليها من ذلك الرجل، فقد حاول على أية حال. لم تكن مسؤولية "السيطرة على المنفذ"
هي الدافع الذي قاده إلى السؤال، و لكنها كانت ردة فعل تلقائلية نتجت عن عمله مع ساسياما
لمدة خمس سنوات.
"التقطتها من أووغيشيما سابقًا.
رأيتها على الأرض"
تنهد كوغامي، بعد سماعه للإجابة الغبية
المتوقعة. و الماء يقطر من شعره -قطرة، قطرتان- لتتتساقط على أرضية الغرفة الباردة.
"اوي، ألستَ مبللًا؟ استخدم المنشفة
بسرعة"
"لا!"
"كما تشاء"
استرد ساسياما المنشفة واستخدمها لتجفيف
شعره دون الشعور بالحزن و لو قليلًا جراء هذا الرفض قوي اللهجة. و ازداد استياء كوغامي
اكثر عندما تناثرت عليه قطرات الماء جراء تجفيف ساسياما لشعره بكل حماس.
"لا تقم بالتقاط اشياء عشوائية أثناء
المهمة!"
"اذًا متى اقوم بالتقاطها؟ في أيام
العطل؟ في السكن الفارغ؟ هل سأجد اشياء جيدة ملقاة هناك؟"
"الأمر ليس كذلك...! عنيت ألا تفعل ما
يحلوا لك أثناء المهمة! و لمعلوماتك..."
كان هناك مشكلة اكثر اهمية توجب ذكرها
أولًا...
" أوليست متسخة؟ لماذا بحق الجحيم
تستخدم منشفة التقطتها بشكل عشوائي من منطقة مهجورة على شعرك؟!"
سأل كوغامي بينما هو يفكر في حالة
أووغيشيما؛ أكبر منطقة مهجورة في البلاد كانا قد تواجدا فيها في وقت سابق من تلك
الليلة.
في ذلك الوقت التي كانت اليابان لا تزال
تتداول مع دول أخرى، كان المصدر الرئيسي للطاقة هو النفط. و كانت أووغيشيما منطقةً
صناعية مليئة بمصانع القطاع الخاص. و لكن مع مرور الوقت، أوقفت اليابان التجارة
الدولية، وتناقص التعداد السكاني إلى العُشر في تلك الفترة الأكثر ازدهارًا، مما أدى
إلى انخفاض الطلب لخطوط الانتاج الكبرى وانتهاء دورهم، ومن ثم سُجل المكان كمنطقة
مهجورة كبيرة. سُجلت المنطقة لأنه في الواقع لا يزال هناك أشخاص يعيشون فيها. بغض النظر عن العصر، كان هناك أناس بمقدورهم العثور على المكان
المناسب لإخفاء أنفسهم، وفي الوقت الحاضر اصبحت أووغيشيما هي المكان الذي يلجأ
إليه الناس الذين لا يمكنهم لتعايش مع نظام العرافة.
ظِل الوحش العملاق الذي استحوذ على خليج
طوكيو.
نهاية قذرة و مظلمة لأولئك الذين انفصلوا
عن المجتمع.
قام الناس الذين يسكنون هناك بتحويل
المكان إلى شيء مختلف تمامًا. الكثير من أنابيب التهوية في بعض البنيان -مفقودة من
بعض الأماكن و متصلة بهياكل بنيان أخرى و متداخلة بشكل لا متناهي- صار المكان
عبارة عن متاهة متداخلة.
بقايا النفط القديم المختلطة مع جزيئات
الغبار تركت آثار متسخة في جميع أنحاء المكان. جثث فئران -هشة وقذرة- طافية
على المياه الملونة الممتدة على قارعة الطريق.
المشردون -مُغطون بالنفايات والأوساخ-
مستلقون في جميع أنحاء الشارع.
يمكن للمكان أن يجلب رائحة سيئة لأنفك
بمجرد التفكير فيه.
'و هذا الرجل يستخدم منشفة وجدها في ذلك
المكان... حتى أنه قد عرضها علي. بجدية، لا يمكن احتمال المجرمين الكامنين'
شعر كوغامي بالصداع مجددًا عند التفكير بالأمر.
"إنها ليست متسخه. ولا تنبعث منها
رائحة سيئة. تفضل..."
قال كوغامي بنبرة سخريه عندما رمى ساسياما
المنشفة على وجهه. هذا الموقف أدى إلى جعل ذاك الأخير يضحك.
تلك الضحكة الغير مسؤولة تسببت بانفجار غضب
كوغامي، ورمى بقبضته على طاولة قريبة و صرخ.
"أطلب منك كتابة تقرير عن مهمة
اليوم!"
"ماذا؟"
"أتعلم ما الذي ارتكبته للتو؟!"
"قدمتُ خدمة للمجتمع؟"
تشه! بعد كل التأففات، فكر كوغامي في ما إذا كان يبالغ في ردة فعله.
"أأنت من يقول هذا الكلام؟ السماح
لمجرم كامن ذو معامل جريمة فوق المعدل الطبيعي بالهرب يُعد خدمة للجمتع؟"
"لا أحب الإطلاق على النساء،
أنا..."
كوغامي يقاطع حديثه
"أحب النساء كثيرًا لدرجة انني صرت
مجرمًا كامناً، صحيح؟ لقد سئمت من سماع ذلك مرارًا و تكرارًا"
تُعد المنطقة المهجورة
مكانًا لا يستطيع الناس الآخرون دخوله كل هذا الوقت. مع ذلك و في السنوات الأخيرة، كان هناك
العديد والعديد من الأصوات المؤيدة لهدم المناطق المهجورة ومن بينها أووغيشيما. لكن
في تلك الليلة، حصل اشتباك بين السكان والمسؤولين عن هدم المنازل.
كوغامي و ساسياما ذهبا إلى ذلك المكان
لإيقاف الفوضى لكن ساسياما ترك المجرمين الكامنين هناك يفرّون بجلدهم وحسب. وكل هؤلاء
المجرمين كانوا نساءً.
اتكأ ساسياما على كرسي المكتب، جاعلًا إياه
يدور بينما ينظر إلى كوغامي بتعابير استفزازية ولسانه يتدلى خارجًا.
"فكر بالأمر"
وقف ساسياما قبل أن يرد
"لماذا تعتقد أنهم يريدون هدم
أووغيشيما فجأة؟ الحكومة تتصرف وكأنه لم يعد لها وجود منذ عقود. و لهذا، صارت
مكانًا لحصر المجرمين الكامنين الذين لا يسعنا تولي أمرهم. لا توجد مشكلة في
السماح لهم بالعيش هناك. و هذا يشكل منفعة لقسمنا أليس كذلك؟"
كان ساسياما محقًا فيما قاله. لم يكن بالضرورة التورط بأمور تلك المنطقة المهجورة نظرًا لحال مكتب الأمن العام الذي يفتقر للأفراد. بغض النظر عما يحدث هناك فهو ليس من ضمن مسؤولياتهم، تمامًا كما اعتادت الحكومة أن تتعامل مع المناطق المهجورة دائمًا.
"إن تحتم علينا الامساك بجميع
المجرمين في تلك المنطقة، فأين سنضهعم؟"
بالرغم من كون ساسياما شخص وقح، فهو ليس
مجنوناً أو غبي. كوغامي يعلم جيدًا أنه خلف تلك العيون اللامعة تقبع شرارة من الذكاء
الحاذق.
أُخذ كوغامي بتلك النقطة التي أشار إليها
ساسياما. لكنه رد قائلًا:
"ذلك... ليس ما يجدر بك أو حتى بي
التفكير بشأنه. انني أقول لك أن السماح لمجرم كامن بالهرب هو المشكلة. لقد سلبتهم
فرصة التعافي والعودة إلى المجتمع"
"التعافي والعودة إلى المجتمع؟
اههه... فكرة نابعة من نخبة مفتشي مكتب الأمن العام، يا له من تفكير شريف"
تنهد ساسياما بسخط قبل ان يخرج سيجارته، و
يشعلها.
"أتريد التدخين؟"
"أنا لا أدخن. كم مرة علي ان اخبرك بذلك قبل ان تتمكن من تذكره؟"
"آآآه، أجـــــل...."
تصاعد دخان السجائر ليطفو بعشوائية بين الاثنين.
لا يزال بالامكان علاج هؤلاء المجرمين
الكامنين الذين يملكون معاملات جريمة غير مرتفعة، لكن، سيكون ذلك مستحيلًا إن ارتفع معامل الجريمة إلى نقطة معينة. ومن ثم سيتم عزلهم بعيدًا عن المجتمع، و
سيتحتم عليهم إمضاء بقية حياتهم في المركز العلاجي أو تخييرهم للعمل كمنفذين.
بغض النظر عن مدى المثالية التي يمكننا الوصول إليها بهذه الفكرة، فنهاية المجرمين الكامنين كانت بتلك البساطة.
"أعلم ذلك جيدًا، أنا والذي بدوري
اُعتبر مجرمًا كامنًا"
تحدث صمتُ ساسياما بكل ذلك.
ومن ثم سُحب الدخان إلى فتحة التهوية.
-يتبع....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق